سورة الروم - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(11)}
هل بدأ الله الخلق بالفعل، أم مازال يبدأ الخلق؟ الأسلوب هنا أسلوب ربٍّ يتكلم، فهو سبحانه بدأ الخَلْق أصوله أولاً، وما يزال خالقاً سبحانه، وما دام هو الذي خلق بَدْءاً، فهو الذي يعيد {الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ....} [الروم: 11].
وفي أعراف البشر أن إعادة الشيء أهون من ابتدائه؛ لأن الابتداء يكون من عدم، أما الإعادة فمن موجود، لذلك يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ...} [الروم: 27] أي: بمقاييسكم وعلى قَدْر فَهْمكم، لكن في الحقيقة ليس هناك هَيِّن وأهون في حقه تعالى؛ لأنه سبحانه لا يفعل بمزاولة الأشياء وعلاجها، إنما بكُنْ فيكون، لكن يخاطبنا سبحانه على قَدْر عقولنا.
فالحق سبحانه بدأ الخلق وما يزال سبحانه يخلق، وانظر مثلاً إلى الزرع تحصده وتأخذ منه التقاوي للعام القادم، وهكذا في دورة مستمرة بين بَدْء وإعادة {الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ...} [الروم: 11].
وسبق أنْ ضربنا مثلاً بالوردة الغضَّة الطرية بما فيه من جمال في المنظر والرائحة، فإذا ما قُطِفتْ جفَّتْ، لأن المائية التي بها تبخرتْ، وكذلك رائحتها ولونها انتشر في الأثير، ثم يتفتت الباقي ويصير تراباً، فإذا ما زرعت وردة جديدة أخذت من المائية التي تبخرت ومن اللون ومن الرائحة التي في الجو.
وهكذا تبدأ دورة وتنتهي أخرى؛ لأن مُقوِّمات الحياة التي خلقها الله هي هي في الكون، لا تزيد ولا تنقص، فالماء في الكون كما هو منذ خلقه الله: هَبْ أنك شربت طوال حياتك عشرين طناً من الماء، هل تحمل معك هذا الماء الآن؟ لا إنما تَمَّ إخراجه على هيئة عرق وبول ومخاط وصماخ أذن.. إلخ، وهذا كله تبخَّر ليبدأ دورة جديدة.
ثم يقول سبحانه: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم: 11] نلحظ أن الكلام هنا عن الخَلْق {الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ...} [الروم: 11] لكن انتقل السياق من المفرد إلى الجمع {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم: 11] ولم يقل يرجع أي: الخلْق، فلماذا؟
قالوا: لأن الناس جميعاً لا يختلفون في بَدْء الخلق ولا في إعادته، لكن يختلفون في الرجوع إلى الله، فهذا مؤمن، وهذا كافر، هذا طائع، وهذا عاصٍ، وهذا بين بين، ففي حال الرجوع إلى الله ستفترق هذه الوحدة إلى طريقين: طريق للسعداء، وطريق للأشقياء، لذلك لزم صيغة الإفراد في البَدْء وفي الإعادة، وانتقل إلى الجمع في الرجوع إلى الله لاختلافهم في الرجوع.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة...}.


{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ(12)}
معنى {يُبْلِسُ المجرمون} [الروم: 12] أي: يسكتون سُكوتَ اليائس الذي لا يجد حجة، فينقطع لا يدري ما يقول ولا يجد مَنْ يدافع عنه، حتى قادتهم وكبراؤهم قد سبقوهم إلى العذاب، فلم يعُدْ لهم أمل في النجاة، كما قال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة...} [هود: 98]، ومن ذلك سُمِّي(إبليس)؛ لأنه يئس من رحمة الله.
وفي موضع آخر يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].
أي: لما نسوا منهج الله أراد سبحانه أن يعاقبهم في الدنيا، وحين يعاقبهم الله في الدنيا لا يأخذهم على حالهم إنما يُرخي لهم العَنان، ويُزيد لهم في الخيرات، ويُوسِّع عليهم مٌتَع الدنيا وزخارفها، حتى إذا أخذهم على هذه الحال كان أَخْذه أليماً، وكانت سقطتهم من أعلى.
كما أنك مثلاً لا تُوقع عدوك من على الحصيرة، إنما ترفعه إلى أعلى ليكون الانتقام أبلغَ، أمّا إنْ أخذهم على حال الضِّيق والفقر، فالمسألة إذن هيِّنة، وما أقرب الفقر من العذاب!
ولنا ملحظ في قوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ....} [الأنعام: 44] فمادة فتح إنْ أراد الحق سبحانه الفتح لصالح المفتوح عليه يقول {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1] وإن أراد الفتح لغير صالحه يقول {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ...} [الأنعام: 44] والفرق بيِّن بين المعنيين، لأن اللام هنا للملك {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1] إنما على {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ...} [الأنعام: 44] فتعني ضدهم وفي غير صالحهم، كما نقول في المحاسبة: له وعليه، له في المكسب وعليه في الخسارة.


{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ(13)}
نعم، لم يجدوا من شركائهم مَنْ يشفع لهم؛ لأن الشركاء قد تبرأوا منهم، كما قال سبحانه: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} [البقرة: 166].
وكذلك يقول التابعون: {رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} [فصلت: 29].
وما أشبه هذين: التابع والمتبوع بتلميذين فاشلين تعوَّدا على اللعب وتضييع الوقت، وشغَل كل منهما صاحبه عن دروسه، وأغواه بالتسكّع في الطرقات، إلى أنْ داهمهما الامتحان وفاجأتهما الحقيقة المرّة، فراح كل منهما يلعن الآخر ويسبُّه، ويلقي عليه بالمسئولية.
إذن: ساعة الجد تنهار كل هذه الصلات الواهية، وتتقطع كل الحبال التي تربط أهل الباطل في الدنيا {وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ} [الروم: 13] ولِمَ لا وقد تكشفتْ الحقائق، وظهر زيفهم وبان ضلالهم؟
ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة...}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8